فصل: تفسير الآيات (96- 105):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (84):

{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)}
{وَقَالَ مُوسَى} لما رأى تخوف المؤمنين به. {ياقوم إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} فثقوا به واعتمدوا عليه. {إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ} مستسلمين لقضاء الله مخلصين له، وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين، فإن المعلق بالإيمان وجوب التوكل فإنه المقتضي له، والمشروط بالإسلام حصوله فإنه لا يوجد مع التخليط ونظيره إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت.

.تفسير الآية رقم (85):

{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)}
{فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا} لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين ولذلك أجيبت دعوتهم. {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} موضع فتنة. {لّلْقَوْمِ الظالمين} أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا.

.تفسير الآية رقم (86):

{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)}
{وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} من كيدهم ومن شؤم مشاهدتهم، وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي له أن يتوكل أولاً لتجاب دعوته.

.تفسير الآية رقم (87):

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)}
{وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا} أي اتخذا مباءة. {لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة. {واجعلوا} أنتما وقومكما. {بُيُوتِكُمْ} تلك البيوت. {قِبْلَةَ} مصلى وقيل مساجد متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة، وكان موسى صلى الله عليه وسلم يصلي إليها. {وَأَقِيمُواْ الصلاة} فيها، أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم. {وَبَشّرِ المؤمنين} بالنصرة في الدنيا والجنة في العقبى، وإنما ثنى الضمير أولاً لأن التبوأ للقوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور، ثم جمع لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما ينبغي أن يفعله كل أحد، ثم وحد لأن البشارة في الأصل وظيفة صاحب الشريعة.

.تفسير الآيات (88- 92):

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)}
{وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً} ما يتزين به من الملابس والمراكب ونحوهما. {وَأَمْوَالاً في الحياة الدنيا} وأنواعاً من المال. {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} دعاء عليهم بلفظ الأمر بما علم من ممارسة أحوالهم أنه لا يكون غيره كقولك: لعن الله إبليس. وقيل اللام للعاقبة وهي متعلقة ب {ءاتَيْتَ} ويحتمل أن تكون للعلة لأن إيتاء النعم على الكفر استدراج وتثبيت على الضلال، ولأنهم لما جعلوها سبباً للضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا فيكون {رَبَّنَا} تكريراً للأول تأكيداً وتنبيهاً على أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة لقوله: {رَبَّنَا اطمس على أموالهم} أي أهلكها، والطمس المحق وقرئ: {اطْمِس} بالضم. {واشدد على قُلُوبِهِمْ} أي وأقسها عليها حتى لا تنشرح للإيمان. {فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} جواب للدعاء أو دعاء بلفظ النهي، أو عطف على {لِيُضِلُّواْ} وما بينهم دعاء معترض.
{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} يعني موسى وهارون لأنه كان يؤمن. {فاستقيما} فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجة، ولا تستعجلا فإن ما طلبتما كائن ولكن في وقته. روي: أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة. {وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} طريق الجهلة في الاستعجال أو عدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله تعالى، وعن ابن عامر برواية ابن ذكوان ولا تتبعان بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين، {وَلاَ تَتَّبِعَانّ} من تبع {وَلاَ تَتَّبِعَانّ} أيضاً.
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر} أي جوزناهم في البحر حتى بلغوا الشط حافظين لهم، وقرئ: {جوزنا} وهو من فعل المرادف لفاعل كضعف وضاعف. {فَأَتْبَعَهُمْ} فأدركهم يقال اتبعته حتى أتبعته. {فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} باغين وعادين، أو للبغي والعدو وقرئ: {وعدوا}. {حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق} لحقه. {قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ} أي بأنه. {لا إله إِلاَّ الذي ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إسراءيل وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} وقرأ حمزة والكسائي أنه بالكسر على إضمار القول أو الاستئناف بدلاً وتفسيراً ل {لآمنت} فنكب عن الإيمان أوان القبول وبالغ فيه حين لا يقبل.
{الئان} أتؤمن الآن وقد أيست من نفسك ولم يبق لك اختيار. {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} قبل ذلك مدة عمرك. {وَكُنتَ مِنَ المفسدين} الضالين المضلين عن الإيمان.
{فاليوم نُنَجّيكَ} ننقذك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافياً، أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيل. وقرأ يعقوب {نُنَجّيكَ} من أنجى، وقرأ {ننحيك} بالحاء أي نلقيك بناحية من الساحل. {بِبَدَنِكَ} في موضع الحال أي ببدنك عارياً عن الروح، أو كاملاً سوياً أو عرياناً من غير لباس. أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها. وقرئ: {بأبدانك} أي بأجزاء البدن كلها كقولهم: هوى بإجرامه أو بدروعك كأنه كان مظاهراً بينها. {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً} لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليهم أنه لا يهلك، حتى كذبوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بفرقة إلى أن عاينوه مطرحاً على ممرهم من الساحل، أو لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك عبرة ونكالاً عن الطغيان، أو حجة تدلهم على أن الإنسان على ما كان عليه من عظم الشأن وكبرياء الملك مملوك مقهور بعيد عن مظان الربوبية.
وقرئ لمن {خلقك} أي لخالقك آية أي كسائر الآيات فإن إفراده إياك بالإِلقاء إلى الساحل دليل على أن تعمد منه لكشف تزويرك وإماطة الشبهة في أمرك. وذلك دليل على كمال قدرته وعلمه وإرادته، وهذا الوجه أيضاً محتمل على المشهور. {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.

.تفسير الآية رقم (93):

{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)}
{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا} أنزلنا. {بَنِى إسراءيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ} منزلاً صالحاً مرضياً وهو الشأم ومصر. {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات} من اللذائذ. {فَمَا اختلفوا حتى جَاءهُمُ العلم} فما اختلفوا في أمر دينهم إلا من بعد ما قرؤوا التوراة وعلموا أحكامها، أو في أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فيميز المحق من المبطل بالإِنجاء والإِهلاك.

.تفسير الآية رقم (94):

{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)}
{فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} من القصص على سبيل الفرض والتقدير. {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} فإنه محقق عندهم ثابت في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك، والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة وأن القرآن مصدق لما فيها، أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إليه، أو تهييج الرسول صلى الله عليه وسلم وزيادة تثبيته لا إمكان وقوع الشك له ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {لا أشك ولا أسأل} وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته أو لكل من يسمع أي إن كنت أيها السامع في شك مما نزلنا على لسان نبينا إليك، وفيه تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم. {لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ} واضحاً أنه لا مدخل للمرية فيه بالآيات القاطعة. {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} بالتزلزل عما أنت عليه من الجزم واليقين.

.تفسير الآية رقم (95):

{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)}
{وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين} أيضاً من باب التهييج والتثبيت وقطع الأطماع عنه كقوله: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين}

.تفسير الآيات (96- 105):

{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)}
{إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ} ثبتت عليهم. {كَلِمَةُ رَبِّكَ} بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في العذاب. {لاَ يُؤْمِنُونَ} إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه.
{وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ} فإن السبب الأصلي لإِيمانهم وهو تعلق إرادة الله تعالى به مفقود. {حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} وحينئذ لا ينفعهم كما لا ينفع فرعون.
{فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ} فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها آمنت قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر إليها كما أخر فرعون. {فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} بأن يقبله الله منها ويكشف العذاب عنها. {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} لكن قوم يونس عليه السلام. {لَمَّا ءامَنُواْ} أول ما رأوا أمارة العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله. {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى في الحياة الدنيا} ويجوز أن تكون الجملة في معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه، فيكون الاستثناء متصلاً لأن المراد من القرى أهاليها كأنه قال: ما آمن أهل قرية من القرى العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس، ويؤيده قراءة الرفع على البدل. {وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} إلى آجالهم. روي: أن يونس عليه السلام بعث إلى أهل نينوى من الموصل، فكذبوه وأصروا عليه فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث. وقيل إلى ثلاثين. وقيل إلى أربعين، فلما دنا الموعد أغامت السماء غيماً أسود ذا دخان شديد فهبط حتى غشي مدينتهم، فهابوا فطلبوا يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقه، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرقوا بين كل والدة وولدها فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأخلصوا التوبة وأظهروا الإِيمان وتضرعوا إلى الله تعالى، فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة.
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأرض كُلُّهُمْ} بحيث لا يشد منهم أحد. {جَمِيعاً} مجتمعين على الإِيمان لا يختلفون فيه، وهو دليل على القدرية في أنه تعالى لم يشأ إيمانهم أجمعين، وأن من شاء إيمانه يؤمن لا محالة، والتقييد بمشيئة الإلجاء خلاف الظاهر. {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس} بما لم يشأ منهم. {حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} وترتيب الإكراه على المشيئة بالفاء وإيلاؤها حرف الاستفهام للإنكار، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل فلا يمكن تحصيله بالإكراه عليه فضلاً عن الحث والتحريض عليه؛ إذ روي أنه كان حريصاً على إيمان قومه شديد الاهتمام به فنزلت. ولذلك قرره بقوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ} بالله. {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} إلا بإرادته وألطافه وتوفيقه فلا تجهد نفسك في هداها فإنه إلى الله. {وَيَجْعَلُ الرجس} العذاب أو الخذلان فإن سببه. وقرئ بالزاي وقرأ أبو بكر {ونجعل} بالنون. {عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات، أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع ويؤيد الأول قوله: {قُلِ انظروا} أي تفكروا.
{مَاذَا في السموات والأرض} من عجائب صنعه لتدلكم على وحدته وكمال قدرته، و{مَاذَا} إن جعلت استفهامية علقت {انظروا} عن العمل. {وَمَا تُغْنِى الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} في علم الله وحكمته {وَمَا} نافية أو استفهامية في موضع النصب.
{فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ} مثل وقائعهم ونزول بأس الله بهم إذ لا يستحقون غيره من قولهم أيام العرب لوقائعها. {قُلْ فانتظروا إِنَّى مَعَكُمْ مّنَ المنتظرين} لذلك أو فانتظروا هلاكي إني معكم من المنتظرين هلاككم.
{ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ} عطف على محذوف دل عليه {إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ} كأنه قيل؛ نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ومن آمن بهم، على حكاية الحال الماضية. {كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين} كذلك الإِنجاء أو إنجاء كذلك ننجي محمداً وصحبه حين نهلك المشركين، و{حَقّاً عَلَيْنَا} اعتراض ونصبه بفعله المقدر. وقيل بدل من كذلك. وقرأ حفص والكسائي {نُنَجّى} مخففاً.
{قُلْ يا أَيُّهَا الناس} خطاب لأهل مكة. {إِن كُنتُمْ في شَكّ مّن دِينِى} وصحته. {فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ} فهذا خلاصة ديني اعتقاداً وعملاً فاعرضوها على العقل الصرف وانظروا فيها بعين الإِنصاف لتعلموا صحتها وهو أني لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه، ولكن أعبد خالقكم الذي هو يوجدكم ويتوفاكم. وإنما خص التوفي بالذكر للتهديد. {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} بما دل عليه العقل ونطق به الوحي، وحذف الجار من أن يجوز أن يكون من المطرد مع أن وأن يكون من غيره كقوله:
أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِه ** فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَسَبِ

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ} عطف على {أَنْ أَكُونَ} غير {أَن} صلة {أن} محكية بصيغة الأمر، ولا فرق بينهما في الغرض لأن المقصود وصلها بما يتضمن معنى المصدر لتدل معه عليه، وصيغ الأفعال كلها كذلك سواء الخبر منها والطلب، والمعنى وأمرت بالاستقامة في الدين والاستبداد فيه بأداء الفرائض، والانتهاء عن القبائح، أو في الصلاة باستقبال القبلة. {حَنِيفاً} حال من الدين أو الوجه. {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين}.